فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثانيها: أن أحدًا من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأمة من الأمم لا تدخل الجنة قبل أمتك.
ثالثها: أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل، وهذا على قولنا بأن المراد جبريل صحيح، والوجهان المتقدمان على قولنا المراد محمد عليه الصلاة والسلام أظهر، وفيه وجه غريب من حيث العربية مشهور معناه عند الأصوليين، ولنبين ذلك في معرض الجواب عن سؤال، وهو أن يقال بم عرف محمد صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك من عند الله وليس أحدًا من الجن، والذي يقال إن خديجة كشفت رأسها امتحانًا في غاية الضعف إن ادعى ذلك القائل أن المعرفة حصلت بأمثال ذلك، وهذا إن أراد القصة والحكاية، وإن خديجة فعلت هذا لأن فعل خديجة غير منكر وإنما المنكر دعوى حصول المعرفة بفعلها وأمثالها، وذلك لأن الشيطان ربما تستر عند كشف رأسها أصلًا فكان يشتبه بالملائكة فيحصل اللبس والإبهام؟ والجواب الصحيح من وجهين أحدهما: أن الله أظهر على يد جبريل معجزة عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بها كما أظهر على يد محمد معجزات عرفناه بها وثانيهما: أن الله تعالى خلق في محمد صلى الله عليه وسلم علمًا ضروريًا بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان كما أن الله تعالى خلق في جبريل علمًا ضروريًا أن المتكلم معه هو الله تعالى وأن المرسل له ربه لا غيره.
إذا علم الجوابان فنقول قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}.
فيه وجهان أحدهما: أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحاه إلى جبريل أي كلمه الله أنه وحي أو خلق فيه علمًا ضروريًا ثانيهما: أوحى إلى جبريل ما أوحى إلى محمد دليله الذي به يعرف أنه وحي، فعلى هذا يمكن أن يقال ما مصدرية تقديره فأوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء، ليفرق بين الملك والجن. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى}.
قال ابن عباس ومجاهد: معنى {والنجم إِذَا هوى} والثُّرَيَّا إذَا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمي الثُّريَّا نجمًا وإن كانت في العدد نجومًا؛ يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفيّ يَمتحِن الناس به أبصارهم.
وفي (الشِّفا) للقاضي عياض: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثُّريا أحد عشر نجمًا.
وعن مجاهد أيضًا أن المعنى والقرآن إذا نزل؛ لأنه كان ينزل نجومًا.
وقاله الفرّاء.
وعنه أيضًا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب.
وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت.
وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمْع؛ كقول الراعي:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحِيرةٍ ** سَرِيع بِأيدي الآكلِين جمُودُها

وقال عمر بن أبي ربيعة:
أَحْسَنُ النَّجْمِ في السماءِ الثُّرَيَّا ** وَالثُّرَيَّا في الأرضِ زَيْنُ النِّساءِ

وقال الحسن أيضًا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة.
وقال السدّي: إن النجم هاهنا الزُّهرَة لأن قومًا من العرب كانوا يعبدونها.
وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين؛ وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذُعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرًا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقضّ منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك؛ فلما بُعِث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوّة التي حدثت.
وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهَوَى أي سقط على الأرض.
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: {وَالنَّجْمِ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {إِذَا هَوَى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: أن عُتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتينّ محمدًا فلأوذينّه، فأتاه فقال: يا محمد أنا كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى.
ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّ عليه ابنته وطَلّقها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهم سَلِّط عليه كلبًا من كلابك» وكان أبو طالب حاضرًا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلًا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة.
فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد؛ فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتَشمَّم وجوههم حتى ضرب عُتْبة فقتله.
وقال حسان:
مَنْ يَرْجِعِ العام إِلى أَهْلِهِ ** فَمَا أَكِيلُ السَّبْع بالرَّاجِع

وأصل النَّجْم الطلوع؛ يقال: نَجَم السنُّ ونَجَم فلانٌ ببلاد كذا أي خرج على السلطان.
والهُوِيّ النزول والسقوط؛ يقال: هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا؛ قال زهير:
فَشَجَّ بِهَا الأماعِزَ وهْي تَهْوِي ** هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَها الرِّشَاءُ

وقال آخر:
بَيْنَما نَحْنُ بالبَلاَكِثِ فالْقَا ** عِ سِرَاعًا والعِيسُ تَهْوِي هُوِيًّا

خَطَرتْ خَطْرَةٌ على القَلْبِ مِن ذِكْ ** رَاكِ وَهْنًا فما استطعت مُضيًّا

الأصمعي: هَوَى بالفتح يَهْوِي هُوَيًّا أي سقط إلى أسفل.
قال: وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه، وهَوَى وانهوى فيه لغتان بمعنًى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
وكَمْ مَنْزِلٍ لولايَ طِحْتَ كما هَوَى ** بأَجرامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مَنْهَوِي

ويقال في الحُبّ: هَوِيَ بالكسر يَهْوَى هَوًى؛ أي أحبّ.
قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} هذا جواب القسم؛ أي ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه.
{وَمَا غوى} الغيَّ ضد الرشد أي ما صار غاويًا.
وقيل: أي ما تكلم بالباطل.
وقيل: أي ما خاب مما طلب والغيّ الخيبة؛ قال الشاعر:
فمن يَلْقَ خيرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ** ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِمَا

أي مَن خاب في طلبه لامه الناس.
ثم يجوز أن يكون هذا إخبارًا عما بعد الوحي.
ويجوز أن يكون إخبارًا عن أحواله على التعميم؛ أي كان أبدًا موحدًا لله.
وهو الصحيح على ما بيناه في (الشورى) عند قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان}.
قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى}.
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} إليه.
وقيل: {عَنِ الْهَوَى} أي بالهوى؛ قاله أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] أي فاسأل عنه.
النحاس: قول قتادة أولى، وتكون {عن} على بابِها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى}.
الثانية: قد يحتج بهذه الآية من لا يجوّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث.
وفيها أيضًا دلالة على أن السُّنة كالوحي المنزل في العمل.
وقد تقدّم في مقدّمة الكتاب حديث المِقدام بن معدي كرب في ذلك والحمد لله.
قال السجستاني: إن شئت أبدلت {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} مِن {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن {إِنْ} الخفيفة لا تكون مبدلة من ما الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إِن أنا لقاعد.
قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين؛ سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوّة والقوة من صفات الله تعالى؛ وأصله من شدّة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل.
ثم قال: {فاستوى} يعني الله عز وجل؛ أي استوى على العرش.
روي معناه عن الحسن.
وقال الربيع بن أنس والفراء: {فاستوى} {وَهُوَ بالأفق الأعلى} أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب {هو}.
وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه؛ فيقولون: استوى هو وفلان؛ وقلما يقولون استوى وفلان؛ وأنشد الفرّاء:
أَلَمْ تَرَ أَنّ النَّبْعَ يَصلُبُ عُودُهُ ** ولا يَسْتوِي والخِرْوَعُ المتقصِّفُ

أي لا يستوى هو والخِروع؛ ونظير هذا: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَآؤُنَآ} [النمل: 67] والمعنى أئذا كنا ترابًا نحن وآباؤنا.
ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى.
وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر.
وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر.
وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود.
وإذا كان المستوي جبريل فمعنى {ذُوِ مرَّةٍ} في وصفه ذو منطق حسن؛ قاله ابن عباس.
وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن.
وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وقال امرؤ القيس:
كنتُ فيهم أبدًا ذا حِيلة ** مُحْكَمَ المِرَّةِ مأمُونَ الْعُقَد

وقد قيل: {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة.
قال الكلبي: وكان من شدّة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوطٍ من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها.
وكان من شدّته أيضًا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند، وكان من شدّته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين.
وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف.
وقال قُطْرُب: تقول العرب لكل جَزل الرأي حصيف العقل: ذُو مِرّةٍ.
قال الشاعر:
قد كنتُ قبلَ لِقاكُمُ ذا مِرَّةٍ ** عندي لِكلّ مُخاصِمٍ مِيزانُهُ

وكان من جزالة رأيه وحصَافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله.
قال الجوهري: والمِرَّة إحدى الطبائع الأربع، والمِرّة القوّة وشدّة العقل أيضًا.
ورجل مرير أي قويّ ذوِ مرةٍ.
قال:
تَرى الرَّجُل النَّحيفَ فتزدريه ** وحَشْوُ ثِيابِه أسدٌ مَرِيرٌ

وقال لَقِيط:
حتى استمرت على شَزْرٍ مَرِيرتهُ ** مُرُّ العزِيمةِ لا رَتًّا ولا ضَرَعَا

وقال مجاهد وقتادة: {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوّة؛ ومنه قول خُفَاف بن نَدْبة:
إِنيّ امرؤ ذو مِرّةٍ فاستبقِنِي ** فِيما يَنُوبُ مِن الخُطُوبِ صَلِيبُ

فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق.
{فاستوى} يعني جبريل على ما بينا؛ أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيِّب وابن جبير.
وقيل: {فاستوى} أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها؛ لأنه كان يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الأدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراءٍ، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبيّ صلى الله عليه وسلم مغشيًّا عليه، فنزل إليه في صورة الآدميين وضمّه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه؛ فلما أفاق النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدًا على مثل هذه الصورة» فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سَعَة كل جناح ما بين المشرق والمغرب.
فقال: «إن هذا لعظيم» فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرًا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وإنه ليتضاءل أحيانًا من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصَع.
يعني العصفور الصغير؛ دليله قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} [التكوير: 23] وأما في السماء فعند سِدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقول ثالث أن معنى {فَاسْتَوَى} أي استوى القرآن في صدره.
وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه.
الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه.
وقول رابع أن معنى {فَاسْتَوَى} فاعتدل يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوّته.